قبل 11 يوماً أقرت الدول الأعضاء في منظمة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ميثاق المنظمة، ودخل حيز التنفيذ في 15 كانون الأول (ديسمبر) 2008، لتؤطر هذه الدول رسمياً تحالفها بشكل قانوني على الصعيد الدولي، في تجمع جديد يبرز دور جنوب شرق آسيا على الساحة السياسية والاقتصادية، ويضع العالم أمام خيار سهل/صعب: أن يتعامل مع جنوب شرق آسيا ككيان واحد. خطوة باتجاه أن تصبح منطقة جنوب شرق آسيا وحدة واحدة. كان هنري كسنجر يشتكي في السابق: كيف لي أن أخاطب أوروبا؟ أي رقم هاتفي أطلب؟ وجاء خافير سولانا بعد الاتحاد الأوروبي ليسميه الكثير: "السيد أوروبا" ويحل أزمة كسنجر، وأصبحت أمريكا تخاطب أوروبا باتصال هاتفي واحد. ومع سهولة التواصل هذا، إلا أن العالم يواجه صعوبة من نوع آخر: التعامل مع كيان واحد يحتوي على فروقات ثقافية وسياسية واقتصادية كبيرة، ولم يستطع الاتحاد توحيد الرؤى الأوروبية فيما يتعلق بالقضايا الدولية (فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط على الأقل). ننتظر بروز السيد آسيا في المنطقة ليصبح الموقف الجنوب شرق آسيوي مختزلاً في رقم هاتفي واحد، ويضع العالم أمام معضلة استقراء الموقف الآسيوي في القضايا الدولية.
تأسست منظمة الآسيان عام 1967، ولكن وتيرة النمو فيها اكتسبت سرعات مضاعفة في الآونة الأخيرة، لتصل إلى اعتماد ميثاق المنظمة الأسبوع الماضي. ويعيش في الرقعة الجغرافية الصغيرة التي تحتوي على دول الآسيان نحو 10 في المائة من سكان العالم (575 مليونا) 2007، على مساحة إجمالية قدرها 4.46 مليون كم مربع، أي قرابة نصف مساحة دولة البرازيل.
تسعى الدول الأعضاء في المنظمة (ميانمار، لاوس، تايلاند، كمبوديا، فيتنام، الفلبين، ماليزيا، بروناي، سنغافورة، وإندونيسيا)، إلى خلق وحدة جيوبوليتيكية تؤدي لإيجاد سوق اقتصادية ذات تأثير عالمي. ولهذه الدول طموحات أكبر بكثير مما تحقق حتى الآن، فقد عقدت عام 2005 لقاء قمة ضم الدول الأعضاء في المنظمة، إضافة إلى الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، الهند، أستراليا، ونيوزلندا. وأشار بعض المحللين إلى أن هذه بداية لسوق مشتركة قادمة بين هذه الدول (يتوقع توقيع اتفاقيات تجارة حرة مع هذه الدول والمنضمة بحلول 2013)، وهي سوق ولا شك سيكون لها تأثير يتجاوز السوق الأوروبية بمراحل، حيث اجتمعت رؤوس الأموال الآسيوية، والأيدي العاملة، وقرب المصادر الطبيعية، والقوة الشرائية المتنامية، والنمو الاقتصادي المطرد، لتجعل هذه الزاوية من الأرض الشريان الجديد الذي يجس نبضه لقياس صحة قلب العالم الاقتصادي. كما تم طرح مشروع العملة الموحدة لدول الآسيان، إضافة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية، وهو الآن رهن الدراسة، ولكنه سيكون حافزاً للسوق الآسيوية المشتركة، التي تحاول الولايات المتحدة منع إنشائها لتجنب مواجهة مارد اقتصادي جديد فاقتصاد المنطقة يشير إلى نمو كبير، إذ بلغ مجموع الناتج المحلي الإجمالي (حسب معادل القوة الشرائية) لدول الآسيان أكثر من 5961 بليون دولار (2007)، بمعدل نمو قدره 6.5 في المائة في السنة.
ومع أن هذا التحالف تقليدي في إصراره على المحافظة على الحدود السياسية، والهوية الوطنية للدول الأعضاء بخلاف الاتحاد الأوروبي الذي يكاد يصبح دولة واحدة، إلا أن الأبعاد الاقتصادية والتنسيق السياسي بين الدول الأعضاء سيعوض القصور الذي ستسببه ولا شك فكرة الوحدة الوطنية التقليدية أمام هذه التحالفات الدولية في مرحلة ما بعد القومية.
والمنطقة وجهة ليس فقط لرؤوس الأموال، بل للسياحة العالمية كذلك، فحسب إحصاءات المنظمة، وصل عدد السياح للمنطقة ما بين عامي 2004 و2007 أكثر من 116 مليون سائح جاءوا من خارج المنطقة، وتخطط عديد من الشركات العالمية لبناء مدن ترفيه في منطقة جنوب شرق آسيا، نظراً للكثافة السكانية والقوة الشرائية الهائلة، ويستعد التايكون الأمريكي دونالد ترمب لبناء مدينة ترفيهية في المنطقة تتجاوز في إمكاناتها مدينة لاس فيغاس الأمريكية.
تحاول منظمة الآسيان الدخول في شبكة المنظمات الدولية بشكل سريع ومؤثر، فقد عرضت في الاجتماع الوزاري لمجلس التعاون الخليجي في الرياض في أيلول (سبتمبر) 2007، مشروع صياغة رسمية للشراكة مع المجلس. وفي الشهر نفسه وقعت المنظمة مذكرة تفاهم مع منظمة الأمم المتحدة للتعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك في الأصعدة السياسية، والثقافية، والاقتصادية.
أعتقد أن مجلس التعاون الخليجي سيكسب شريكاً اقتصادياً مهما متى ما أنهيت المفاوضات المتعلقة بتوقيع اتفاقيات اقتصادية مع دول الآسيان، ولا يمنع هذا الدول الأعضاء في المجلس من توقيع اتفاقيات ثنائية مع المنظمة. إن بناء تحالفات اقتصادية مع الآسيان سيكون بمثابة التنويع في الاستثمارات الدولية لمنطقة الخليج، وحجز مقعد أمامي في الطفرة الآسيوية القادمة التي تقودها هذه النمور المتوفزة.
:016:
منقول من: